السؤال الذي طرحه الأستاذ عبد العظيم حماد في منشوره اليوم الخميس تعليقا على قمة بكين حول الفائدة التي يمكن أن تعود على شعوبنا من حرب عالمية جديدة، لا ينبغي أن يمر دون وقفة للتأمل بحثًا عن إجابة منطقية، لاسيما في ضوء ما لاحظه، وما يلاحظه كثير من المراقبين المعنيين بشؤون المنطقة، بخصوص "شعور الارتياح في منطقتنا باندلاع ما يسميه المتطلعون عندنا بحرب باردة جديدة، لا مانع بل يؤمل، أن تتحول الي حرب عالمية ثالثة". وهو شعور في محله وبرز في كثير من التعليقات على المنشور.
لقد استقر العالم بعد الحرب العالمية الثانية وسباق التسلح النووي، الذي جربته الولايات المتحدة، بإلقاء قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناجازاكي في اليابان، على أن أي حرب عالمية تنشب ستكون حربًا مدمرة للعالم، ووضعت سيناريوهات كثيرة لما أطلق عليه في الكتابات الاستراتيجية عن "توازن الرعب النووي" بين القطبين – الأمريكي والسوفيتي- في مرحلة الحرب الباردة، والذي ذهب إلى مدى أبعد عما كان عليه الحال في وقت أزمة الصواريخ السوفيتية في كوبا، إذ امتلكت القوى النووية الكبرى قدرات تكفي لتدمير العالم عدة مرات، وكل ما تحقق في مفاوضات الحد من التسليح هو خفض هذه القدرات وليس إلغاؤها، والحفاظ على الردع الاستراتيجي والتكتيكي، كما رأينا في مفاوضات ستارت 1 و2.
على الرغم من أن التفكير الاستراتيجي، خصوصًا في الولايات المتحدة، وفي مناطق أخرى اتجه نحو تطوير ما يعرف بالأسلحة النووية التكتيكية الذي يسمح باستخدام محدود للأسلحة النووية لاستخدامها في ساحات قتال محدودة، إلا أن المنطق ظل يربط أي استخدام جديد للأسلحة النووية، ولو بشكل تكتيكي، بما أطلق عليه الصحفي الأمريكي سيمور هيرش، "الخيار شمشون"، في الكتاب الذي ألفه عن السلاح النووي الإسرائيلي، والذي يشير إلى أن هذا الاستخدام سيكون بمثابة هدم للمعبد على رؤوس الجميع. ونتيجة لذلك، لا تزال الوظيفة الأساسية للأسلحة النووية تتمثل في المكانة الدولية بالأساس، حتى قدرتها على الردع تظل موضع شك إلى حد كبير، ذلك أن وجود هذه الأسلحة لم يمنع نشوب حروب في أنحاء متفرقة من العالم، شمل بعضها قوى نووية، وتشير تقارير غير مؤكدة إلى استخدام أشكال مختلفة من الذخائر التي تحتوي على "يورانيوم منضب" في حرب العراق عام 2003.
كل ما فعلته الأسلحة النووية هو منع نشوب حروب بين قوى نووية باستثناء، المواجهات العسكرية فيما بين الهند وباكستان، بسبب الخلاف حول إقليم كشمير وخلافات أخرى بين البلدين، والتي تم الاعتماد فيها على أسلحة تقليدية، وسارع العالم لاحتوائها حتى لا تتطور إلى مواجهة استراتيجية. وأظهرت القيادات في الدولتين قدرة كبيرة على ضبط النفس والتروي، ولم يظهرون أي ميول انتحارية أو الوقوع في صياغات مثل "صراع الوجود" أو "المباريات الصفرية"، وهما من الصياغات السائدة في خطاب بعض القيادات العربية في مراحل زمنية مختلفة. وعلى الرغم من أن خبرة باكستان والهند تشيران إلى منطق جديد ومغاير بعد امتلاك السلاح النووي، إلا أن الشكوك كبيرة في أن يكون الحال هكذا مع امتلاك دولة مثل إيران أسلحة نووية في ظل الخطاب السياسي السائد لديها، خصوصًا فيما يخص إسرائيل. وعلى الرغم أن إيران أظهرت سلوكًا منضبطًا في المواجهات الأخيرة مع إسرائيل وتلقي ضربة أمريكية، إلا أن من المستبعد أن يغير ذلك من الموقف الدولي من مسألة السلاح النووي الإيراني لعدة أسباب تتصل بالنوايا والخداع.
بيد عمرو لا بيدي
ينطبق على موقف الحالمين في العالم العربي بحرب عالمية يعلمون جيداً أنها ستكون لن تبقي ولن تذر، أو يتمنون ذلك، المثل المعدل القائل "بيد عمرو لا بيدي"، وهذا منطق في التفكير يدفع العالم إلى النظر بقلق إلى سلوك كثير من الجماعات والقوى في المجتمعات العربية. وللعالم الحق في أن يتخيل ما قد يكون عليه الحال إذا امتلكت دولة عربية أو شرق أوسطية أسلحة نووية أو أسلحة دمار شامل في حال وصول مثل هذه القوى إلى السلطة، ويجعله أكثر إصرارًا على منع هذه الدول من الحصول على أسلحة نووية، وأن يفكروا في سيناريوهات تتعلق بامتلاك جماعات تصنف بأنها جماعات "إرهابية" وجماعات عقائدية أسلحة للدمار الشامل واحتمالات استخدام هذه الأسلحة في هجماتها ومن خلال تحليل سلوك التنظيمات التي تتبنى تكتيكات العمليات الانتحارية. والحقيقة أن هذه الجماعات موجودة في مجتمعات أخرى وفي ثقافات أخرى، ورأينا أمثلة لها في اليابان، بل في الولايات المتحدة حيث توجد تيارات في سياق ما يعرف بالمسيحية الصهيونية أو جماعات مسيحية أصولية تؤمن بعقيدة حرب هرمجدون، والذين لعب بعضهم أدوارًا في تطوير العقيدة النووية الأمريكية، خصوصًا في ظل الإدارات الجمهورية، على النحو الذي زاد من المخاوف من احتمالات الإقدام على مواجهات نووية محدودة قد تؤدي إلى مواجهة نووية شاملة. لكن السلوك الذي أبداه الجمهوريون خصوصا في عهد رونالد ريجان، فيما يخص التفاوض على الحد من التسلح النووي يشير إلى أن السلوك السياسي محكوم بحسابات أخرى غير تلك الرؤى. كذلك القلق الذي تظهره كثير من الدوائر لدى القوى النووية من اندلاع حرب نووية عن طريق الإنذارات النووية الكاذبة نتيجة لتبني تطبيقات آلية للإنذار والاستجابة.
إن المشكلة لدى هذه الجماعات مشكلة "خطاب" أكثر منها مشكلة "قدرة"، ومشكلة فقر في الفكر السياسي والاستراتيجي والمخيلة، وإحساس عميق بالعجز نتيجة عدم القدرة على التغيير سواء على المستوى الوطني والداخلي أو على مستوى الوضع الإقليمي والدولي، على النحو الذي تظهره حرب غزة وما أدت إليه من كارثة إنسانية ومجاعة لا تمتلك الدول العربية والقوى الدولية إلا خيارات محدودة للتصدي لها. ثمة نقطة أخرى تتعلق بالقلق من المستقبل، ذلك أن كل تحرك لتغيير الوضع إلى الأفضل يفرز نتائج أسوأ، الأمر الذي يدفع كثيرا من الناس في العالم العربي إلى تفضيل الوضع القائم على الإقدام على أي محاولة للتغيير تكون عواقبها غير معلومة أو حتى الحنين إلى فترات في التاريخ يعتقد أنها فترات ذهبية، رغم أن الدراسة المتأنية تشير إلى أنها كانت فترات عصيبة بالنسبة للأغلبية الساحقة من الناس.
إن موقف هذه الجماعات يذكرني بفيديو جرى تداوله على وسائل التواصل الاجتماعي بمناسبة العام الجديد، تسأل فيه المذيعة امرأة من العامة عن أمنيتها للعام الجديد فقلت المرأة "أن تقوم القيامة"، وصدمت هذه الإجابة المذيعة فسألتها أن تعيد الإجابة فأجابت السيدة وهي تبتسم "القيامة تقوم". وتدل تلك الإجابة على مدى اليأس الذي تشعر به هذه المرأة والتي تعد صدى لمن ينتظرون حربًا عالمية فيما بين القوى العالمية الكبرى، ستكون حتما حربًا نووية مدمرة. وبمناسبة الحرب النووية كانت هناك نكتة شائعة بين أنصار معسكر السلام في إسرائيل وقت أن كان إسحق شامير رئيسا للوزراء، ويواجه ضغوطا أمريكية للمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام بعد حرب تحرير الكويت في عام 1991، وهي الضغوط التي كلفته منصبه وفتحت الطريق لإسحاق رابين والمشاركة في المؤتمر والدخول في مفاوضات سرية في أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية انتهت بتوقيع اتفاق في عام 1993.
تقول النكتة: ألقى شامير خطابًا عاما قال فيه للإسرائيليين لدي خبر سيء وخبر سار.. الخبر السيء أنه علم من الرئيس الأمريكي أن حربا عالمية نووية ستنشب عما قريب ستؤدي إلى تدمير العالم، بما في ذلك إسرائيل نفسها، أما الخبر السار الذي بشر به الجمهور، أنه لن تكون هناك دولة فلسطينية.. لكن تيار اليمين الإرهابي الذي ينتمي إليه شامير وغيره من الساسة الذين يحكمون إسرائيل الآن والمطلوبين للعدالة الدولية، والذي ترى المدعية العامة الإسرائيلية أن بعضهم يجب أن يكون في السجن، لم ينتظر قيام حرب عالمية لمنع قيام دولة فلسطينية، وإنما اغتال أحدهم رابين في عام 1995، وينقلبون حتى على إرث أرئيل شارون، الذي اتخذ قرار الانسحاب من قطاع غزة في عام 2005، رغم أنه هو أيضًا مجرم حرب وفق تقرير لجنة "كاهانا" التي شكلها الكنيست الإسرائيلي التي حققت في مسؤوليته عندما كان وزيرا للدفاع وقت الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، في مذبحة مخيمي "صبرا وشاتيلا" للاجئين الفلسطينيين في بيروت في سبتمبر من ذلك العام، وأوصت بمنعه وبمنع رئيس أركان الجيش في ذلك الوقت رفائيل إيتان من شغل أي منصب عسكري، ووضعوا استراتيجية ممنهجة لتصفية اليسار ومعسكر السلام ليفسحوا الطريق أمام مشروعهم لضم الأراضي ومخططاتهم التوسعية.
لم يبق أمام من يدقون طبول الحرب العالمية، الذين لا يرون طريقًا آخر لتغيير الوضع لتمسكهم باستراتيجية "إما أن نربح كل شيء أو نخسر كل شيء"، ولا يؤمنون بقيمة الخطوات الصغيرة لإحداث التغيير فيقفون جامدين في أماكنهم أو يقدمون على مغامرات غير محسوبة ومبنية على أوهام تسهل للعدو مهمته، سوى الرهان على حرب عالمية لن تحدث، وإن حدثت سنكون نحن أول الخاسرين فيها.. إنه ضرب آخر من ضروب التفكير الانتحاري الذي نمجده ونعتبره استشهادًا، وهو نمط في التفكير يحتاج منا وقفة ومراجعة لأنهم في هذه الحالة يطبقون مثل "بيدي لا بيد عمرو" في صياغته الأصلية.
-------------------------------
بقلم: أشرف راضي